كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروى ابن جرير عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: كان جدي يقال له حَزْن، وكان ممن بايع تحت الشجرة، فأتيناها من قابل، فعمّيت علينا.
ثم قال ابن جرير: وزعموا أن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول: هنا، وبعضهم يقول: ها هنا! فلما كثر اختلافهم قال: سيروا، هذا التكلّف، فذهبت الشجرة، وكانت سمرة، إما ذهب بها سيل، وإما شيء سوى ذلك. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): روى ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قومًا يأتون الشجرة، فيصلّون عندها، فتوعدهم، ثم أمر بقطعها، فقطعت!.
ولا ينافي ما تقدم، لاحتمال أن هؤلاء علموا مكانها، أو توهّموها، فاتخذوها مسجدًا، ومكانًا مقدسًا، فقطعها عمر حالتئذ، صونًا لعقيدتهم من الشرك، لأن الاجتماع على العبادة حولها يفضي إلى عبادتها بعد، كما أفضى نصب الأوثان إلى عبادتها، وكان أول أمرها لتعظيم مسمياتها، وإجلال مثال أصحابها.
وقال في (الفتح) أيضًا في شرح ابن عمر، وقوله: رجعنا من العام المقبل، فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها. كانت رحمة من الله، ما مثاله:
وقد وافق المسيب بن حَزْن، والد سعيد، ما قاله ابن عمر من خفاء الشجرة. والحكمة في ذلك أن لا يحصل بها افتنان، لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر، كما نراه الآن مشاهدًا فيما هو دونها. وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله كانت رحمة من الله. أي: كان خفاؤها عليهم، بعد ذلك، رحمة من الله تعالى. انتهى.
وهذه البيعة تسمى بيعة الرضوان، سميت لهذه الآية، وتقدمت قصتها مفصلة.
{فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: من الصدق والعزيمة على الوفاء بالعهد: {فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} أي: في الصبر والطمأنينة والوقار {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} قال ابن جرير: أي: وعوّضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة، بقتالهم أهلها {فَتْحًا قَرِيبًا}، وذلك- فيما قيل- فتح خيبر.
{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [19].
{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} وهي مغانم خيبر، وكانت أرضًا ذات عَقَّار وأموال، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل بيعة الرضوان خاصة {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} أي: ذا عزة في انتقامه من أعدائه، وحكمه في تدبير خلقه.
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [20].
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} يعني ما يفيء عليهم من غنائم الكفار في سبيل الجهاد {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} يعني غنائم خيبر. وأما الغنائم المؤخرة فسائر فتوح المسلمين بعد ذلك الوقت، إلى قيام الساعة. وقيل: المعجلة هي صلح الحديبية. والصواب هو الأول، كما قاله ابن جرير؛ لأن المسلمين لم يغنموا بعد الحديبية غنيمة، ولم يفتحوا فتحًا أقرب من بيعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية إليها، من فتح خيبر وغنائمها {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ} أي: أيدي أهل خيبر، فانتصرتم عليهم، أو أيدي المشركين من قريش عنكم في الحديبية. واختار ابن جرير الأول. قال: لأن الثاني سيذكر في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} الآية. أي: والتأسيس خير من التأكيد. ولك أن تقول: لا مانع من التأكيد، لاسيما في مقام التذكير بالنعم، والتنويه بشأنها. وتكون الآية الثانية بمثابة التفسير للأولى، والتبيين لمطلقها- والله أعلم- {وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي: ولتكون تلك الكفة أو الغنيمة عبرة للمؤمنين، يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان، وأنه ضامن نصرهم، والفتح لهم {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} أي: ويزيدكم بصيرة ويقينًا وثقة بفضل الله. وقوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [21].
{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} معطوف على: {هَذِهِ} أي: فيجّعل لكم هذه المغانم، ومغانم أخرى، وهي مغانم هوزان في غزوة حنين، لأنه قال: {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} وهذا يدل على ما تقدم محاولة لها. وقال الحسن: هي فارس والروم. قال القرطبي: وكونها معجلة، وإن كانت لم تحصل إلا في عهد عمر، بالنسبة لما بعدها من الغنائم الإسلامية.
وعن قتادة: هي مكة. قال ابن جرير: وهذا القول الذي قاله قتادة، أشبه بما دل عليه ظاهر التنزيل. وذلك أن الله أخبر هؤلاء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة أنه محيط بقرية لم يقدروا عليها، ومعقول أنه لا يقال لقوم، لم يقدروا على هذه المدينة، إلا أن يكونوا قد راموها فتعذرت عليهم. فأما وهم لم يرموها فتتعذر عليهم، فلا يقال إنهم لم يقدروا عليها. فإذا كان ذلك كذلك، وكان معلومًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقصد قبل نزول هذه الآية عليه، خيبرَ لحربٍ، ولا وجّه إليها لقتال أهلها جيشًا ولا سرية، علم أن المعنى بقوله: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} غيرها، وأنها هي التي عالجها ورامها فتعذرت، فكانت مكة وأهلها كذلك، وأخبر الله تعالى نبيه والمؤمنين، أنه أحاط بها وبأهلها، وأنه فاتحها عليهم. انتهى.
وقال القرطبي: معنى: {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} أي: أعدها لكم، فهي كالشيء الذي أحيط به من جميع جوانبه، فهو محصور لا يفوت. فأنتم، وإن لم تقدروا عليها في الحال، فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم. وقيل: {أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} علم أنها ستكون لكم، كما قال: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءً عِلْمًا}. وقيل: حفظها الله عليكم، ليكون فتحها لكم. انتهى.
وقد جوز في: {أُخْرَى} أن تكون معطوفة على: {مَغَانِمَ} المنصوب بـ: {وَعَدَكُمْ} وأن تكون مرفوعة بالابتداء و: {لَمْ يَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} صفتها و: {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} خبر. وأوجه أخر.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} أي: لا يبعد عليه إذا شاءه.
ثم أشار تعالى إلى تبشير أهل بيعة الرضوان بالظفر، والنصر المستمر، لصدق إيمانهم، وإخلاصهم في ثباتهم، وإيثارهم مرضاة الله ورسوله على كل محبوب، بقوله: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [22، 23].
{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ} أي: بعد هذا الفتح، والنصر المعجل: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} أي ولوهم أعجازهم في الحرب، فعل المنهزم من قرنه في الحرب {ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} أي: من يواليهم على حربكم، وينصرهم عليكم {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ} أي: مضت في كفار الأمم السالفة مع مؤمنيها {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} أي: تغييرًا.
قال ابن جرير: بل ذلك دائم. للإحسان جزاؤه من الإحسان، وللإساءة، والكفر العقاب، والنكال.
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [24].
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} أي: قضى بينهم وبينكم المكافّة والمحاجزة، بعد ما خولكم الظفر عليهم والغلبة، إشارة إلى منة الصلح ونعمته في الحديبية، وأن ذلك عناية منه تعالى بما حفظ من أنفسهم وأموالهم، ولطف بهم يومئذ لما ادخر لهم بعده.
وقد ذهب بعضهم إلى أنه عنى بهذا الكف، ما كان يوم الفتح، ونظر فيه بأن السورة نزلت قبله.
وقال ابن إسحاق: حدثني من لاأتهم عن عِكْرِمَة مولى ابن عباس أن قريشًا كانوا بعثوا أربعين رجلًا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطوفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من أصحابه أخذًا، فأخذوا أخذًا. فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم، وخلى سبيلهم. وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل. قال ابن إسحاق: ففي ذلك قال: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} الآية.
وروى ابن جرير عن مجاهد قال: أقبل معتمرًا نبي الله صلى الله عليه وسلم. فأخذ أصحابه ناسًا من أهل الحرم غافلين، فأرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم. فذلك الإظفار ببطن مكة.
قال قتادة: بطن مكة، الحديبية.
{وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} أي: فيجازيكم عليه.
{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [25].
{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: هؤلاء المشركون من قريش، هم الذين جحدوا توحيد الله: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ} أي: وصدوا الهدي أيضًا، وهو ما يهدى إلى مكة من النعم: {مَعْكُوفًا} أي: محبوسًا. قال السمين: يقال: عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته عنها. وأنكر الفارسي تعدية عكف بنفسه، وأثبتها ابن سيده، والأزهري وغيرهما، وهو ظاهر القرآن، لبناء اسم المفعول منه. انتهى.
وقوله تعالى: {أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} قال ابن جرير: أي: محل نحره. وذلك دخول الحرم، والموضع الذي إذا صار إليه حلّ نحره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك، سبعين بدنة.
وفي الآية دليل على أن محل ذبح الهدي، الحرم.
{وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ} أي: موجودون بمكة مع الكفار: {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} أي: بصفة الإيمان وهم بمكة، حبسهم المشركون بها عنكم، فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم {أَن تَطَؤُوهُمْ} أي: تقتلوهم مع الكفار، لو أذن لكم في الفتح بدل الصلح. قال السمين: {أَن تَطَؤُوهُمْ} يجوز أن يكون بدلًا من رجال ونساء، غلب الذكور، وأن يكون بدلًا من مفعول: {تَعْلَمُوهُمْ}. فالتقدير على الأول: ولولا وطء رجال ونساء غير معلومين. وتقدير الثاني: لم تعلموا وطأهم، والخبر محذوف تقديره: ولولا رجال ونساء موجودون، أو بالحضرة. انتهى.
{فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ} أي: إثم وغرامة. من عرّه إذا عراه ما يكرهه. وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} حال من الضمير المرفوع في: {تَطَؤَوهُمْ} أي: تطؤوهم غير عالمين بهم. وفي جواب: {لَوْلاَ} أقوال:
أحدها- أنه محذوف لدلالة الكلام عليه. والمعنى: ولولا كراهة أن تهلكوا ناسًا مؤمنين بين ظهراني المشركين، وأنتم غير عارفين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة، لما كف أيديكم عنهم، ولأذن لكم في دخول مكة مقاتليهم.
والثاني- أنه مذكور، وهو: {لَعَذَّبْنَا} وجواب لو هو المحذوف. فحذف من الأول لدلالة الثاني، ومن الثاني لدلالة الأول.
والثالث-أن قوله: {لَعَذَّبْنَا} جوابهما معًا، وهو بعيد إن أريد حقيقة ذلك.
وذكر الزمخشري قريبًا من هذا فإنه قال: ويجوز أن يكون: {لَوْ تَزَيَّلُوا} كالتكرير لـ: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ} لمرجعهما لمعنى واحد، ويكون: {لَعَذَّبْنَا} هو الجواب. ومنع الشيخ رجوعهما لمعنى واحد، قال: لأن ما تعلق به الأول غير ما تعلق به الثاني- أفاده السمين-.
وأجاب الناصر بقوله: وإنما كان مرجعهما هاهنا واحدا، وإن كانت لولا تدل على امتناع لوجود، ولو تدل على امتناع لامتناع. وبين هذين تناف ظاهر؛ لأن لولا هاهنا دخل على وجود، ولو دخلت على قوله: {تَزَيَّلُوا} وهو راجع إلى عدم وجودهم. وامتناع عدم الوجود وجود. فآلا إلى أمر واحد من هذا الوجه. قال: وكان جدي رحمه الله يختار هذا الوجه الثاني، ويسميه تطرية. وأكثر ما تكون إذا تطاول الكلام، وبعد عهد أوله، واحتيج إلى رد الآخر على الأول، فمرة يطري بلفظه، ومرة بلفظ آخر يؤدي مؤادّه وقد تقدمت لهما أمثال.
تنبيه:
فسر ابن إسحاق المعرة بالدية، ذهابًا إلى أن دار الحرب لا تمنع من ذلك. وهو مذهب الشافعي. وذهب غيرهما إلى أنها تمنع من ذلك، ومنهم ابن جرير، حيث قال: المعرة هي كفارة قتل الخطأ، وذلك عتق رقبة مؤمنة لمن أطاق ذلك، ومن لم يطق فصيام شهرين. قال: وإنما اخترت هذا القول، دون القول الذي قاله ابن إسحاق، لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب- إذا لم يكن هاجر منها، ولم يكن قاتِله علم إيمانه- الكفارةَ دون الدية فقال: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} لم يوجب على قاتله خطأ ديته، فلذلك قلنا: عنى بالمعرة في هذا الموضع الكفارة. انتهى.
{لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء} متعلق بما يدل عليه الجواب المحذوف، كأنه قيل عقيبه: لكن كفها عنهم، ولم يأذن لكم في مقاتلتهم، ليدخلكم في رحمته الكاملة بحفظكم من المعرة. وقد جوّز أن يكون: {مَن يَشَاءُ} عبارة عمن رغب في الإسلام من المشركين، وعليه اقتصر ابن جرير، قال: أي: ليدخل الله في الإسلام من أهل مكة من يشاء، قبل أن تدخلوها. وناقش فيه أبو السعود بأن ما بعده من فرض التنزيل، وترتيب التعذيب عليه، يأباه.
{لَوْ تَزَيَّلُواْ} أي: لو تميز مشركو مكة من الرجال المؤمنين، والنساء المؤمنات، الذين لم تعلموهم منهم: {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي: بالقتل، أو الأسر، أو نوع آخر من العذاب الآجل.
تنبيه:
قال إلكيا الهراسي: في الآية دليل على أنه لا يجوز حرق سفينة الكفار، إذا كان فيهم أسرى من المسلمين، وكذلك رمي الحصون إذا كانوا بها، والكفار إذا تترسوا بهم.
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [26].
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} قال ابن جرير: وذلك حين جعل سهيل بن عَمْرو في قلبه الحمية، فامتنع أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وأن يكتب فيه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم عامه ذلك. والعامل في الظرف إما لعذبنا، أو صدوكم، أو اذكر مقدرًا، فيكون مفعولًا به. والحمية الأنفة، وهي الاستكبار والاستنكاف، مصدر من حمى من كذا حمية.
وقوله تعالى: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} عطف على منويّ. أي: فهم المسلمون أن يأبوا ذلك، ويقاتلوا عليهم، فأنزل الله سكينته على رسوله، وعلى المؤمنين. يعني: الوقار والتثبيت، حتى صالحوهم على أن يعودوا من قابل، وعلى ما تقدم.
{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} أي: اختارها لهم، فالإلزام مجاز عما ذكر من اختيارها لهم، وأمرهم بها.: {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} قال أبو السعود: أي: متصفين بمزيد استحقاق لها. على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقًا. وقيل: أحق بها من الكفار {وَأَهْلَهَا} أي: المستأهل لها {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}. قال أبو السعود: أي: فيعلم حق كل شيء، فيسوقه إلى مستحقه.
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [27].
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ}.